أجلس في مطلع كل عام منذ تولّي رئاسة هيئة سوق رأس المال الفلسطينية لكتابة تقديم للتقرير السنوي عن العام المنصرم. وبينما أقوم بهذا العمل في مطلع العام 2023، يعود بي التفكير ليس فقط بإنجازات الهيئة ومجريات العمل فيها في العام 2022، بل أيضاً للفترة منذ أيلول 2015 عندما توليت رئاسة الهيئة ومجلس إدارتها؛ ذلك لأن هذا سيكون آخر تقديم أكتبه لتقرير سنوي يصدر عن الهيئة، إذ سيشهد العام 2023 انتهاء ولايتي الثانية والأخيرة، بموجب قانون هيئة سوق رأس المال، حيث سأكون قد أمضيت ثماني سنوات في هذا الموقع.
بينما يجلب كل عام معه تجارب وتحديات جديدة، تبقى رسالتنا وكنه عملنا في هيئة سوق رأس المال دون تغيير، فنحن نصبو دوماً إلى تحقيق أهداف الهيئة وتوفير الجو الملائم لنمو القطاعات المالية غير المصرفية التي حددها القانون كمجالات تمارس فيها الهيئة مهام الإشراف والرقابة ضمن الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة لتحقيق النمو الاقتصادي للبلد، ومستوى المعيشة الأفضل، والرخاء للمواطنين. ونحن، إذ نقوم بهذا العمل في جميع الظروف، والمثقلة دائماً بالاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأرض الفلسطينية، الذي يمارس سياسات القتل والقهر وتدمير الاقتصاد الوطني والاستقرار المالي دون رادع دولي، في عالم ظالم لامبالٍ تحكمه المصالح الذاتية والمعايير المزدوجة، أضف إليها ظروفاً مناوئة أخرى ليست ضمن مجال تحكمنا، كجائحة كوڤيد 19 في السنتين الأخيرتين، نبقى نعمل لتحقيق أهداف الهيئة بشكل تراكمي، وبتصميم مدفوع بثقتنا في عدالة قضيتنا وحتمية إنهاء الاحتلال والتحرر، يرعاه مجلس إدارة الهيئة، ويترجمه العاملون في الإدارة التنفيذية والإدارات العامة والوحدات الأساسية المساندة من خلال عملهم الدؤوب والملتزم.
لقد حققت الهيئة في السنوات السبع ونيف المنصرمة، من خلال هذه الجهود، استقراراً مالياً واكتفاءً ذاتياً شبه كامل. وإن كانت الهيئة لا تزال تهتم باجتذاب الدعم المالي والفنّي المتخصص من الدول المانحة ومؤسسات الدعم التنموي فيها لمشاريعها التطويرية في مجالات تشهد تطوراً عالمياً مستمرّاً، وبخاصة التكنولوجيا المالية والشمول المالي، فإنها تسعى، في الوقت نفسه، إلى تخفيض الاعتماد على هذه المساعدات في الاحتياجات الأساسية. وقد نجحت بذلك بالفعل، إلى درجة مكنتها، بالاعتماد على إمكاناتها الذاتية، من توفير تغطية كاملة لموازنتها السنوية المتكررة، وكذلك توفير نسبة عالية من احتياجات إقامة مبنى عصري خاص بها، بتصميم هندسي يوفر للعاملين جو عمل مريحاً مدعّماً بآخر ما توصّلت إليه العلوم والتكنولوجيا من تقنيات في مجالات عملها، ومن مستلزمات لحماية البيئة، وهذا لأول مرّة منذ إنشائها قبل ما يقارب العقدين، بما يغنيها عن استئجار مبانٍ غير ملائمة، تم تصميمها أصلاً لأغراض السكن، حيث بدأ مع كتابة هذا التقرير العمل الإنشائي على مبنى هيئة سوق رأس المال، الذي يقام على أرض تم تخصيصها لذلك في بلدة سردا-أبو قش الملاصقة لمدينتي رام الله والبيرة، ليكون جاهزاً خلال العامين المقبلين إن شاء الله. ولا يفوتني هنا أن أوجه الشكر لفخامة رئيس دولة فلسطين، ودولة رئيس الوزراء، ومعالي وزير الأشغال العامة، على الدعم الذي قدموه في هذا المضمار.
لن أحاول أن أوجز في هذا التقديم تفاصيل الأعمال الكثيرة التي قامت بها الهيئة في العام المنصرم، فأي إيجاز لن يغني عن قراءة كامل التقرير، وأدعو القارئ الكريم إلى ذلك. ولكنني أرغب في أن أنبّه إلى أن الهيئة، رغم الإنجازات الكثيرة والتقدم الملحوظ الذي حققته في بعض القطاعات، فإن هناك أهدافاً في خطة الهيئة الاستراتيجية 2021-2025 وما بعد، تنتظر الإنجاز، ونحن ندرك أن مجرّد تشخيص التحديات والمشاكل، لا يعدو كونه خطوة مهمة أولى على طريق تحقيق التقدم والنمو في هذه القطاعات.
لقد انضوى في مجلس إدارة الهيئة أثناء فترة رئاستي عدد من الأعضاء بخلفيات رسمية ومالية وأكاديمية ومن القطاع الخاص، وكان لي شرف العمل معهم، وأغتنم هذه الفرصة لأتوجه لكل منهم بالشكر على إسهامه في عمل المجلس، وتعاونه في عملنا المشترك للنهوض بالهيئة. كذلك، سعدت كثيراً بالعمل مع طاقم الهيئة، وأخص بالذكر المدير العام والمدراء العامين ومديري الوحدات المساندة الرئيسية في الشؤون القانونية وتكنولوجيا المعلومات، ومديرة مكتب رئيس مجلس الإدارة، وكذلك جميع موظفي الهيئة والعاملين فيها في المواقع المختلفة، وإن كان مدى تعرّفي عليهم واتصالي المهني بهم يتفاوت باختلاف مواقعهم، حيث شهدتُّ عن كثب كيف يعمل هذا الطاقم ككل بمهنية عالية، وبالتزام بالمصلحة العامة، ويبذل الجهد للنهوض بهذه المؤسسة التي تُعنى بقطاع مالي مهم في الدولة، وهو القطاع المالي غير المصرفي.
لم تكن مهامي في هيئة سوق رأس المال دائماً سهلة. فإن كان دوري كرئيس لمجلس الإدارة لا يتطلب جهداً غير عادي لمن يشغل مثل هذا المنصب، فإن عملي كرئيس للهيئة كثيراً ما كان يتطلب انهماكاً في تفاصيل العمل اليومي – دون تدخل في نطاق عمل الإدارة التنفيذية. لقد واجهت الهيئة أثناء فترة رئاستي تحديات كثيرة، وهذا أمر عادي، وأعتقد أنها واجهتها وذللت معظمها بنجاح من خلال الصلابة في التمسك بالقوانين والأنظمة، والمرونة في التعامل مع الجهات التي تشرف عليها الهيئة وتراقبها. وكانت هذه فرصة لي لتوظيف خبرتي السابقة في العديد من المواقع، وأيضاً للتعلم. قيل إن “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”؛ بمعنى أنه يترك أثراً دائماً، وهو في الواقع كذلك في الكبر، ولكن من حيث كونه عملاً صعباً في الكثير من الحالات. ولكن العلم في الكبر كثيراً ما يكون أيضاً ممتعاً، وبخاصة عندما يتطلب توظيف مهارات إيجاد الحلول، وهو ما اخترت تعلّمه قبل نصف قرن، من خلال دراسة الفيزياء والرياضيات. لهذه الفرصة، أشكر من منحني الثقة لإشغال هذه المواقع.
نبيل قسيس
رئيس مجلس إدارة الهيئة